الشرق الاوسط
في عام 2023، غيَّرت «مايكروسوفت» موازين صناعة الألعاب باستحواذها على «Activision Blizzard» مقابل 68.7 مليار دولار، في صفقة وُصفت حينها بأنها الأضخم في تاريخ القطاع.
ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى اتجهت الأنظار للرياض، إذ أعلن صندوق الاستثمارات العامة في سبتمبر (أيلول) الماضي عن قيادة تحالف دولي مع «Silver Lake» و«Affinity Partners» للاستحواذ على «Electronic Arts (EA)» بقيمة 55 مليار دولار، ليُفتح فصلٌ جديدٌ في معادلة القوة الإبداعية عالمياً.
أتذكّر بوضوح تلك الصورة التي علقت في ذهني منذ نهاية أغسطس (آب) من هذا العام؛ حيث يجلس خمسة مسؤولين على منصة واحدة: وزير الرياضة، ووزير الاستثمار، ووزير السياحة، ووزير الاتصالات والتقنية، ورئيس الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية، يتحدثون عن «العصر المقبل للألعاب والرياضات الإلكترونية في المملكة»، كما سمَّاها وزير الاستثمار «النفط الجديد». تلك الجملة التي ربما بدت مجازاً للبعض حينها، في حين كانت في الحقيقة تمهيداً لمرحلة جديدة تدخل فيها المملكة هذه الصناعة بقوّة، عبْرَ استحواذ يضعها في قلب المشهد العالمي. كانت رسالة واضحة للعالم: هذه المنطقة لم تعد تستثمر لتستهلك، بل لتصنع وتنتج.
مَن يتابع التقدم السعودي في صناعة الألعاب خلال الأعوام الماضية، يُدرك أن صفقة «EA» لم تكن خبراً مفاجئاً، بل نتيجة لمسار بدأ بخطى مدروسة: من تأسيس «سافي» للألعاب، واستحواذها على عدة شركات دولية، مروراً بتنظيمها كأس العالم للرياضات الإلكترونية وكأس المنتخبات، وتأسيس برامج تعليمية تصنع الجيل القادم من المبدعين.
يأتي كل ذلك امتداداً لرؤية السعودية 2030، التي وضعت الإبداع في قلب التحول الاقتصادي، مستهدفة أن تصل مساهمة قطاع الألعاب إلى نحو 13 مليار دولار بحلول عام 2030، أي ما يُعادل 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ليصبح الإبداع مورداً وطنياً جديداً.
تأسست «Electronic Arts» عام 1982، ونمت عبر أربعة عقود، لتصبح منصة عالمية للإبداع، وذاكرة متجددة لأجيال من اللاعبين، فهي الشركة التي قدَّمت أشهر ألعاب كرة القدم، وغيرها من أبرز الألعاب الرياضية في العالم. واليوم حين تنتقل «EA» إلى الملكية الخاصة، فهي تتحرر من ضغط الأسواق وتقلبات الأسهم، ما يفتح أمامها مجالاً أوسع للتركيز على البحث والتطوير والإبداع طويل المدى.
وبينما تواصل «مايكروسوفت» تعزيز حضورها عبر «Xbox» و«Azure»، وتراهن «سوني» على قوة محتواها الحصري، وتفرض «تنسنت» سيطرتها على السوق الآسيوية، جاءت السعودية من خلال هذا الاستحواذ، لتُقدِّم نفسها بصفتها مستثمراً قوياً في اقتصاد الإبداع، لا ممولاً فقط، بل صانعاً مؤثراً في رسم ملامح الصناعة وتحديد اتجاهها العالمي.
إن ما يُميّز هذه الصفقة ليس حجمها فقط، فهي ليست توسعاً في سوق الألعاب فحسب، بل ربما تكون مدخلاً لتوحيد الصناعات الإبداعية تحت منطق «اقتصاد التجربة». اقتصادٌ يقوم على الدمج بين الإبداع والتقنية ليمنح المستهلك تجربة شاملة، لا تقتصر على اللعب أو المشاهدة، بل تمتد لتلامس المشاعر، وتُشكل أنماط الحياة. اللعبة تتحوَّل إلى فيلم، والفيلم يُروَّج بموسيقى، والموسيقى تُصبح جزءاً من هوية اللعبة.
فالفيلم واللعبة والموسيقى لم تعد عوالم منفصلة، بل حلقات في منظومة واحدة تُعبِّر عن الخيال الإنساني بلغة حديثة. وامتلاك «EA» يضع السعودية في قلب المنظومة الإبداعية التي تجمع بين الخيال والسرد والإحساس.
وليس من المبالغة القول إننا قد نرى، في السنوات القريبة المقبلة، عملاً تكاملياً سعودياً يجمع بين السينما والموسيقى والألعاب، فالسعودية اليوم تمتلك منظومة متكاملة تؤهلها لصياغة المشهد الإبداعي المقبل، من خلال جهود هيئة الموسيقى وهيئة الأفلام و«سافي» للألعاب، بصفتها ركائز هذا التكامل.
بهذا الاستحواذ، تثبت السعودية أن الإبداع ليس ترفاً، بل خيار استراتيجي لبناء قوتها الاقتصادية الجديدة، فهي لا تشتري شركة ألعاب فقط، بل تستثمر في موقعها من صناعة المستقبل.
ومن المتوقع إتمام الصفقة مطلع عام 2027، لتبدأ بعدها مرحلة تحوُّل في صناعة الإبداع الرقمي عالمياً، تكون السعودية فيها لاعباً أساسياً.
ما بين شجاعة القرار ووضوح الرؤية، تتحدّث السعودية اليوم بلغة جديدة، لغة الاقتصاد الإبداعي، الذي يُقاس بقوة الفكرة، وعمق التأثير، وحجم الإيرادات العابرة للحدود.