الجريمة الرقمية.. تتحول إلى اشتراك شهري! (2-2)
الغد-د. حمزة العكاليك
تتجاوز خطورة مزارع الشرائح حدود الجرائم الإلكترونية التقليدية، فهي لم تعد أداة للاحتيال المالي فحسب، بل تحولت إلى بنية تحتية إجرامية تمكّن الآخرين من ارتكاب جرائم على نطاق غير مسبوق. هذا التحول جعلها في قلب مفهوم الجريمة كخدمة (CaaS)؛ حيث لم يعد المطلوب من المجرم سوى امتلاك المال لاستئجار شبكة تخفي هويته وتفتح له أبواب الوصول إلى ملايين المستخدمين حول العالم. إنها سوق سوداء متكاملة تُدار كأنها شركة تكنولوجية، تقدم خدماتها بأسعار مغرية وبأدوات احترافية، وتستفيد من الثغرات القانونية في دول مختلفة.
وفي هذا السياق، يمثل الأردن نموذجا حساسا بحكم موقعه الريادي في التحول الرقمي والمصرفي. فبينما يتقدم البلد بخطى سريعة نحو رقمنة الخدمات الحكومية والمالية، يتزايد خطر تسلل هذه الشبكات إلى البيئة المحلية. ذلك أن الاعتماد الكبير على رقم الهاتف في المصادقة وتفعيل الخدمات المصرفية يجعل الهوية الرقمية الأردنية هدفا مغريا لمشغلي مزارع الشرائح. ومع ضعف التحقق عند بيع الشرائح في بعض الأسواق، يمكن لأي مجرم أن يجمع مئات الشرائح بهويات مزيفة، أو حتى أن ينشئ مزرعة شرائح محلية تستخدم لتشغيل هجمات أو حملات احتيال موجهة ضد المستخدمين والبنوك.
هذا الخطر لا يهدد الأفراد فحسب، بل يمتد إلى النظام المالي الوطني. فالهجمات التي تبدأ برسالة نصية بسيطة يمكن أن تنتهي بخسائر مالية كبيرة، أو اختراق لأنظمة الدفع، أو حتى تعطيل مؤقت للخدمات المصرفية. من هنا، يصبح الحديث عن مزارع الشرائح حديثا عن الأمن المالي والسيبراني معا، وعن توازن دقيق بين حماية الخصوصية الفردية وصون السيادة الرقمية للدولة.
ولقد كشفت العمليات الأمنية الدولية، مثل SIMCARTEL في أوروبا، أن هذه الشبكات تموّل نفسها من خلال العملات المشفرة، وتعمل كأنها مزوّد غير مرخص لخدمات الأصول الافتراضية. وهذا يعيدنا إلى البيئة التشريعية الأردنية التي بدأت مؤخرا بتنظيم هذا القطاع عبر قانون الأصول الافتراضية للعام 2025، والذي يعد خطوة متقدمة في المنطقة. إلا أن هذا القانون لن يحقق غايته من دون ربط مباشر مع وحدات مكافحة غسل الأموال ووحدة Jo-FinCERT التابعة للبنك المركزي، لضمان تتبع المدفوعات المشفرة التي تمر عبر مثل هذه الشبكات وتجميدها فورا.
ولكن المشكلة لا تكمن فقط في النصوص القانونية، بل في التطبيق العملي. فمكافحة تمويل الجريمة المنظمة عبر الأصول الرقمية تتطلب أدوات تحليل متقدمة قادرة على تتبع الأموال داخل سلاسل الكتل، وهو مجال يحتاج إلى تدريب متخصص للقضاة والمدعين العامين وأجهزة إنفاذ القانون. كما أن التحقيق في قضايا مزارع الشرائح يتطلب تعاونا وثيقا بين قطاع الاتصالات والقطاع المالي، لأن الخيط الأول للجريمة قد يكون شريحة هاتف، بينما الأثر الأخير يظهر في معاملة مالية مشبوهة.
ويبدو أن أحد أبرز التحديات في الأردن اليوم هو غياب التجريم الصريح لمفهوم البنية التحتية الإجرامية. فبينما يجرم قانون الجرائم الإلكترونية الاحتيال واستخدام العناوين المزيفة، إلا أنه لا يتناول صراحة إنشاء أو تشغيل شبكات الـSIM-Box التي تستخدم لتأجير الهوية الهاتفية المجهولة. فهذه الفجوة القانونية تمنح بعض المجرمين مساحة للمناورة، إذ يمكنهم الادعاء بأنهم لم ينفذوا الاحتيال بأنفسهم، بل وفروا الخدمة التقنية فقط. لذلك، بات من الضروري إدراج مادة واضحة تعتبر إنشاء أو تشغيل مثل هذه الشبكات جريمة تمويل للجريمة المنظمة، مع عقوبات مشددة تتناسب مع حجم الخطر الذي تمثله.
ومن ناحية أخرى، فإن الحلول التقنية والتنظيمية لا تقل أهمية عن التشريعات. فيجب أن يبدأ الإصلاح من المصدر: من عملية بيع وتسجيل شرائح الاتصالات، وذلك من خلال تطبيق نظام تحقق بيومتري إلزامي (Biometric KYC) لكل مشترك جديد كخطوة الأولى نحو سد هذه الثغرة. فبصمة الإصبع أو مسح الوجه لا يمكن تزويرها بسهولة، وهي كفيلة بربط كل شريحة بهوية حقيقية موثقة. إلى جانب ذلك، لا بد من فرض سقف عددي صارم للشرائح المسموح بامتلاكها للفرد، بحيث لا يُسمح لأي شخص بتجميع مئات الشرائح من دون مبرر واضح وموافقة مسبقة من الجهات التنظيمية.
ولأن الجرائم لا تتوقف عند حدود الدول، فإن المواجهة يجب أن تكون عبر تعاون وطني عابر للقطاعات. فمن الضروري إنشاء خط تبادل آمن وساخن يربط وزارة الاقتصاد الرقمي، وهيئة تنظيم قطاع الاتصالات، والبنك المركزي، ووحدة مكافحة غسل الأموال، لتبادل المعلومات بشكل لحظي حول أنماط التجميع المشبوهة للشرائح أو التحويلات الرقمية المرتبطة بها. فهذه الجهات مجتمعة تملك الصورة الكاملة، لكن كل منها يرى جزءا منها فقط، والمطلوب هو دمج هذه الرؤية في نظام موحد للإنذار المبكر والاستجابة السريعة.
وفي القطاع المالي، لم يعد من الممكن الاعتماد على الرسائل القصيرة كوسيلة وحيدة للمصادقة. فيجب أن يتحول الأردن تدريجيا نحو حلول أقوى مثل تطبيقات المصادقة أو الرموز المادية (Hardware Tokens)، التي يصعب استغلالها عبر مزارع الشرائح. فكل رسالة تحقق تُرسل عبر SMS هي نقطة ضعف محتملة، وكل رمز يُستقبل عبر رقم هاتف مؤجر هو باب مفتوح للاختراق. وفي ظل عالم تتحرك فيه الجرائم بسرعة التكنولوجيا نفسها، لم يعد مقبولا أن تبقى أنظمتنا الدفاعية بطيئة أو تقليدية.
غير أن الطريق نحو نظام أكثر أمانا ليس سهلا. فتبني البنية التحتية البيومترية يتطلب استثمارات ضخمة، وتطوير أنظمة تحليل رقمية لمكافحة غسل الأموال يحتاج إلى كوادر بشرية مدربة وميزانيات مستدامة. كما أن أي توسع في جمع البيانات البيومترية يجب أن يوازن بين متطلبات الأمن الوطني وحماية الخصوصية الفردية، حتى لا تتحول الحماية إلى مراقبة مفرطة. لهذا يجب أن تترافق الإصلاحات مع إطار قانوني صارم لحماية البيانات الشخصية، يضمن استخدام المعلومات الحساسة فقط في الأغراض الأمنية المحددة وضمن رقابة قضائية واضحة.
في النهاية، تكشف مزارع الشرائح عن وجه جديد للجريمة الحديثة، وجه لا يستخدم السلاح أو القوة، بل يستغل ضعف الأنظمة وثقة الناس. إنها تهديد لا يرى بالعين المجردة، لكنه يضرب في صميم الثقة الرقمية التي يقوم عليها الاقتصاد الحديث. وإذا لم تتحرك الدول، وفي مقدمتها الأردن، نحو سد الفجوات القانونية والتنظيمية، فقد نجد أنفسنا أمام واقع تصبح فيه الهوية الرقمية سلعة تباع وتؤجر في أسواق الجريمة، ويصبح رقم الهاتف الذي نحمله في جيوبنا بوابة مفتوحة لكل من يريد أن يسرقنا... أو ينتحلنا.