أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    26-Oct-2025

الاقتصاد الأخضر في التقاط الكربون وتخزينه*د. أيوب أبودية

 الراي 

في مواجهة التحديات البيئية العالمية، خاصة التغير المناخي وأثره على جنبات الحياة كافة في الدول النامية تحديدا، أصبح التحول نحو الاقتصاد الأخضر ضرورة حتمية لتحقيق التنمية المستدامة والحد من آثار التغير المناخي. فما هو الاقتصاد الأخضر؟
 
يُعرّف الاقتصاد الأخضر بأنه نموذج اقتصادي يسعى إلى تعزيز النمو الاقتصادي مع تقليل الانبعاثات الضارة وحماية الموارد الطبيعية، وهو يعتمد بشكل أساسي على الابتكار في التكنولوجيا البيئية، خاصة في مجالات الطاقة النظيفة، وإدارة الموارد، والصناعات منخفضة الانبعاثات. من بين الابتكارات الأبرز التي اكتسبت أهمية متزايدة في السنوات الأخيرة تأتي تقنيات التقاط الكربون وتخزينه (CCS)، والتي تشكل جزءًا حيويًا من الاستراتيجية العالمية لتحقيق الحياد الكربوني.
 
تقنيات التقاط الكربون وتخزينه تهدف إلى إزالة غاز ثاني أكسيد الكربون من مصادر الانبعاث، سواء كانت صناعية كالمصانع الثقيلة (الإسمنت والحديد والصلب والبتروكيميائيات)، أو ناتجة عن توليد الطاقة، ومن ثم تخزينه بشكل آمن في طبقات جيولوجية عميقة (مثل حقول النفط والغاز المستنفدة أو الطبقات الملحية العميقة)، أو في أعماق البحار، أو إعادة استخدامه في عمليات صناعية محددة كصناعات الحديد والصلب وإنتاج الوقود الصناعي، أو في عمليات تحسين استخراج النفط، أو في بعض الصناعات الكيميائية.
 
الدول الرائدة في مجال الاقتصاد الأخضر والاستثمار في تقنيات التقاط الكربون وتخزينه تقدم نماذج ملهمة. السويد، على سبيل المثال، تعتبر واحدة من أكثر الدول ابتكارا في التكنولوجيا البيئية، حيث تجمع بين سياسات طموحة للطاقة النظيفة واستثمارات ضخمة في الصناعات النظيفة. استراتيجيات السويد ترتكز على تطوير حلول تكنولوجية للحد من التلوث الصناعي وزيادة كفاءة استخدام الطاقة، مما جعلها نموذجا يحتذى به في دمج الابتكار مع السياسات البيئية. كما تستثمر السويد في مشاريع بحثية وتجريبية لتخزين الكربون واستخدامه في الصناعات التحويلية، ما يعزز مكانتها كمركز عالمي للابتكار الأخضر.
 
من جانب آخر، كوريا الجنوبية تستثمر بكثافة في تطوير التكنولوجيا البيئية، بما في ذلك خلايا الوقود وتقنيات التقاط الكربون، ضمن خططها الوطنية للطاقة النظيفة. هذه الاستثمارات تهدف إلى تعزيز أمن الطاقة، خفض الانبعاثات، وخلق صناعات جديدة تعتمد على تقنيات منخفضة الكربون. نجحت كوريا الجنوبية في ربط هذه الابتكارات بالقطاع الصناعي والاقتصادي، ما أتاح لها ريادة مشاريع كبيرة في تقنيات الهيدروجين الأخضر واستخدام الكربون في الصناعات التحويلية.
 
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد اعتمدت على مزيج من التمويل الحكومي والبحث الأكاديمي لدفع الابتكار في مجال الطاقة النظيفة. برامج مثل "ARPA-E" تركز على دعم المشاريع التجريبية الرائدة في مجالات تخزين الطاقة، الهيدروجين الأخضر، وتقنيات التقاط الكربون، مع تشجيع الشراكة بين الجامعات وشركات القطاع الخاص. كما أن الولايات المتحدة بدأت في بناء بنية تحتية لتخزين الكربون وتطوير أسواق للكربون، مما يعزز الاستثمارات في هذا المجال ويخلق فرصًا اقتصادية جديدة.
 
النرويج وكندا تشكلان أيضا أمثلة بارزة في تنفيذ مشاريع التقاط الكربون على نطاق تجاري. فمشروع "Sleipner" في النرويج يعتبر أحد أقدم مشاريع تخزين الكربون في العالم لمنصات الغاز، حيث بدأ منذ عام 1996 في التقاط ملايين الأطنان من غاز ثاني أكسيد الكربون سنويًا وتخزينها في طبقات بحرية عميقة تحت سطح بحر الشمال.
 
وفي كندا، هناك مشروع "Boundary Dam" الذي يعد نموذجًا رائدًا لتحويل محطات الفحم التقليدية إلى محطات منخفضة الكربون باستخدام تقانات التقاط ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين، ما يعكس قدرة التكنولوجيا على دعم الاستدامة الصناعية دون الحاجة لإغلاق الصناعات التقليدية فورًا.
 
مستقبل الاستثمار في التقاط الكربون يعد واعدًا بشكل خاص ضمن إطار الاقتصاد الأخضر، إذ تشير الدراسات إلى أن تحقيق الحياد الكربوني العالمي لن يكون ممكنًا دون اعتماد هذه التقانات، خاصة في الصناعات التي يصعب تحويلها إلى مصادر طاقة متجددة مباشرة.
 
فالاستثمار في التقاط الكربون لا يسهم فقط في الحد من الانبعاثات، بل يفتح آفاقًا اقتصادية كبيرة من خلال خلق صناعات جديدة تعتمد على الهيدروجين الأخضر، إعادة استخدام الكربون في الصناعات الكيميائية، وفتح أسواق لتجارة الكربون المخزن. كما أن الاستثمار المبكر يتيح للبلدان قيادة الابتكار العالمي، وخلق فرص عمل جديدة، وتقليل التكاليف المستقبلية للتحول البيئي.
 
أما على صعيد التعليم والبحث العلمي، فقد أصبح من الضروري إدراج مقررات جامعية متخصصة في تقنيات التقاط الكربون وامتداداته في الهندسة البيئية ضمن البرامج الأكاديمية في الجامعات الأردنية لتهيئة طلبتنا للاستجابة للوظائف في السوق الخضراء القادمة.
 
كذلك فإن تعزيز البحث العلمي في مؤسساتنا العلمية في هذا المجال يسهم في تطوير حلول أكثر فعالية لتخزين الكربون، تحسين كفاءة الطاقة، واستكشاف طرق مبتكرة لاستخدام الكربون المعاد تدويره. كما أن الشراكات بين الجامعات والشركات الخاصة تمثل جسرًا مهمًا بين النظرية والتطبيق، ما يسرع من تطوير حلول عملية قابلة للتطبيق الصناعي.
 
ودور التمويل وصناديق الاستثمار الخضراء لا يقل أهمية عن التكنولوجيا نفسها. إذ إن إنشاء صناديق مخصصة لتمويل مشاريع التقاط الكربون يمكن أن يسرع من نشر هذه التقانات، ويشجع المستثمرين على الدخول في مشاريع طويلة الأجل. والبنوك الدولية وصناديق السيادة يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في هذا الإطار، إلى جانب الحوافز الضريبية والسياسات الداعمة التي تجعل الاستثمار في التقاط الكربون أكثر جاذبية مقارنة بالخيارات التقليدية.
 
فالاستثمار في التقاط الكربون هو استثمار في بيئة مستدامة واقتصاد أخضر مستدام بدأ العالم يمخر عبابه، وهو يوفر فرصة سانحة للدول النامية لتكون جزءًا من الاقتصاد العالمي الجديد منخفض الانبعاثات، وهذه فرصتنا في الأردن تحديدا.
 
وبناء عليه، يمكن القول إن الاقتصاد الأخضر لن يكتمل من دون الاستثمار في تقانات التقاط الكربون وتخزينه. فالدول الرائدة مثل السويد، كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة، النرويج، وكندا، تقدم نماذج حية لكيفية الدمج بين الابتكار، السياسات الداعمة، والتمويل الموجه لتحقيق أهداف الاستدامة. فالمطلوب من الأردن إعداد السياسات والقوانين الضابطة، كما أعدها للهيدروجين الأخضر، وتخصيص التمويل، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وتنشيط التعاون الدولي. فالاستثمار في هذه التقانات ليس مجرد خيار بيئي، بل هو استثمار استراتيجي للمستقبل من شأنه أن يضمن بيئة نظيفة وآمنة واقتصاد مستدام وفرص عمل للأجيال القادمة.